تعاليم حُوريَّة * للشاعر الفلسطينى الراحل محمود درويش
تعاليم حُوريَّة * للشاعر الفلسطينى الراحل محمود درويش
http://www.dpc.org.ae/images/modules..._darweesh3.jpg * فَكَّرتُ يَوماً بالرحيل , فحطّ حَسُّونٌ على يدها ونام . وكان يكفي أَن أُداعِبَ غُصْنَ داليَةٍ على عَجَلٍ ... لتُدْركَ أَنَّ كأس نبيذيَ امتلأتْ . ويكفي أَن أنامَ مُبَكَّراً لَتَرى مناميَ واضحاً , فتطيلُ لَيْلَتَها لتحرسَهُ ... ويكفي أَن تجيء رسالةً منّي لتعرِف أَنْ عنواني تغّير , فوق قارِعَةِ السجون , وأَنْ أَيَّامي تُحوِّمُ حَوْلَها ... وحيالها ** أُمِّي تَعُدُّ أَصابعي العشرينَ عن بُعْد . تُمَشِّطُني بخُصْلَّة شعرها الذَهَبيّ تبحثُ في ثيابي الداخلّيةِ عن نساءٍ أَجنبيَّاتٍ وَتَرْفُو جَوْريي المقطوعَ . لم أَكَبْر على يَدِها كما شئنا : أَنا وَهي , افترقنا عند مُنحَدرِ الرَّخام ... ولوَّحت سُحُبً لنا , ولماعزِ يَرِثُ المَكَانَ . وأَنْشَأَ المنفى لنا لغتين : دارجةُ ... ليفهمَهَا الحمامُ ويحفظَ الذكرى , وفُصْحى ... كي أُفسِّرَ للظلال ظِلالَهَا ! (2) *** ما زلتُ حيَّا في خِضَمَّكِ . لم تَقُول الأُمُّ للوَلَدِ المريضِ مَرِضْتُ من قَمَرِ النحاس على خيامِ البْدوِ . هل تتذكرين طريق هجرتنا إلى لبنانَ , حَيْثُ نسيتني ونسيتِ كيسَ الخُبْزِ [ كانَ الخبزُ قمحيَّاً ] ولم أَصرخْ لئلاّ أُوقظَ الحُرَّاسَ حَطَّتْني على كَتِفْيكِ رائحةُ الندى . يا ظَبْيَةُ فَقَدَتْ هُناكَ كنَاسَها وغزالها ... عَجَنْت بالحَبَقِ الظهيرةَ كُلَّها . وَخَبَزْتِ للسُّمَّاقِ عُرْفَ الديك . أَعرِفُ ما يُخَرَّبُ قلبَك المَثّقُوبَ بالطاووس , مُنْذُ طُرِدْتِ ثانيةً من الفردوس . عالُنا تَغَيَّر كُّلَّهُ فتغيرتْ أَصواتُنا حتَى التحيَّةُ بَيننا وَقَعَتْ كزرِّ الثَوْبِ فوق قولي أَيَّ شيء لي لتَمنَحني الحياةُ دَلالَها . **** هي أُختُ هاجَرَ أُختُها من أُمِّها . تبكي مع النايات مَوْتى لم يموتوا . لا مقابر حول خيمتها لتعرف كيف تَنْفَتِحَ السماءُ ولا ترى الصحراءَ خلف أَصابعي لترى حديقَتَها على وَجْه السراب , فيركُض الزَّمَنُ القديمُ بها إلى عَبَثٍ ضروريِّ : أَبوها طار مثل الشَرْكَسيِّ على حصان العُرسْ (3) أَمَّا أُمها فلقد أَعَدَّتْ , دون أن تبكي لِزَوْجَة زَوْجِها حناءَها , وتفحَّصَتْ خلخالها ... ***** لا نلتقي إلاَّ وداعاً عند مُفْتَرَقِ الحديث . تقول لي مثلاً : تزوجَّ أَيَّةَ امرأة مِنَ الغُرباء , أَجملُ من بنات الحيِّ , لكنْ لا تُصَدِّقْ أَيَّةَ امرأة سواي . ولا تُصَدِّقْ ذكرياتِكَ دائماً . لا تَحْتَرِقْ لتضيء أُمَّكَ , تلك مِهْنَتُها الجميلةُ. لا تحنُّ إلى مواعيد الندى . كُنْ واقعيَّاً كالسماء . ولا تحنّ إلى عباءة جدِّكَ السوداء , أَو رَشَوَاتِ جدّتك الكثيرةِ وانطلِقْ كالمُهْرِ في الدنيا . وكُنْ مَنْ أَنت حيثَ تكون . واحَملْ عبء قلبِكَ وَحْدَهُ ...وارجع إذا اتسَعَتْ بلادُكَ للبلاد وغيَّرتْ أَحوالهَا ... (من ديوان "لماذا تركت الحصان وحيدا" 1995) |
الساعة الآن 07:44 AM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المشاركات والمواضيع بالمنتدى تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهه نظر الموقع
الموقع برعاية الشركة المصرية لتطبيقات الانترنت