إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 02-26-2010, 09:14 PM
الصورة الرمزية reham
reham reham غير متواجد حالياً
عضو
 


إرسال رسالة عبر Skype إلى reham
افتراضي الاحتفال بمولد النبى

لقد طال النزاع في الآونة الأخيرة عن طريق وسائل الإعلام وغيرها حول الاحتفال بمولد النبي الأكرم، وقد رفع بعضهم شعار البدعة فيه، بينما يراه الأكثرون أنّه من السنّة. وإليك دراسة الموضوع في ضوء الأدلة.
حب النبي أصل في الكتاب والسنّة
قد عرفت أن العنصر المقوّم للبدعة هو عدم الدليل على جواز العمل، فلو كان هناك دليل خاص على جواز العمل، أو دليل عام يشمل المصاديق المحدثة فليس ذلك ببدعة، وقد ذكرنا لك أمثالاً كثيرة، وفي ضوء ما ذكر نركّز في هذا الفصل على وجود دليل عام على الاحتفال بيوم ميلاده، وإن لم يكن هناك دليل خاص، وأمّا الدليل فكما يلي:
الحبّ والبغض خلّتان تتواردان على قلب الإنسان، تشتدّان وتضعفان، ولنشوئهما واشتدادهما أو ضعفهما عوامل وأسباب.
ولا شك أن حب الإنسان لذاته من أبرز مصاديق الحب، وهو أمر بديهي لا يحتاج إلى بيان، وجبلي لا يخلو منه إنسان ومن هذا المنطق حبّ الإنسان لما يرتبط به أيضاً، فهو كما يحبّ نفسه يحب كذلك كلّ ما يمت إليه بصلة، سواء كان اتصاله به جمسانياً، كالأولاد والعشيرة، أو معنوياً، كالعقائد والأفكار والآراء والنظريات التي يتبنّاها، وربّما يكون حبّه للعقيدة أشد من حبّه لأبيه وأمه، فيذبّ عن حياض العقيدة بنفسه ونفيسه، وتكون العقيدة أغلى عنده من كلّ شيء حتى نفسه التي بين جنبيه.
فإذا كانت للعقيدة هذه المنزلة العظيمة تكون لمؤسّسها ومغذّيها والدعاة إليها منزلة لا تقل عنها إذ لولاهم لما قام للعقيدة عمود، ولا اخضرّ لها عود، ولأجل ذلك كان الأنباء والأولياء بل جميع الدعاة إلى الأمور المعنوية والروحية محترمين لدى جميع الأجيال، من غير فرق بين نبي وآخر، ومصلح وآخر، فالإنسان يجد من صميم ذاته خضوعاً تجاههم، وإقبالاً عليهم.
ولهذا لم يكن عجيباً أن تحترم، بل تعشق النفوس الطيبة، طبقة الأنبياء والرسل، منذ أن شرّع الله الشرائع وبعث الرسل، فترى أصحابها يقدّمونهم على أنفسهم بقدر ما أوتوا من المعرفة والكمال.
حب النبي في الكتاب
ولوجود هذه الأرضية في النفس الإنسانية والفطرة البشريّة، تضافرت الآيات والأحاديث على لزوم حبّ النبي وكلّ ما يرتبط به، ليست الآيات إلا إرشاداً إلى ما توحي إليه فطرته، قال سبحانه: (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (1).
وقال سبحانه: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (2).
ويقول سبحانه: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (3).
فالآية الكريمة تأمر بأمور أربعة:
1ـ الإيمان به.
2ـ تعزيره.
3ـ نصرته.
4ـ اتّباع كتابه وهو النور الذي أنزل معه.
وليس المراد من تعزيره، نصرته، لأنّه قد ذكره بقوله: (ونصروه) وإنّما المراد توقيره، وتكريمه وتعظيمه بما أنّه نبيّ الرحمة والعظيمة، ولا يختصّ تعزيره وتوقيره بحال حياته بل يعمّها وغيرها، تماماً كما أنّ الإيمان به والتبعيّة لكتابه لا يختصّان بحال حياته الشريفة.
هذه هي العوامل الباعثة إلى حبّ النبي (صلّى الله عليه وآله) وهذه هي الآيات المرشدة إلى ذلك.
ولأجل دعم المطلب نذكر بعض ما ورد من الروايات في الحثّ على حبّه ومودّته.
حب النبي (صلّى الله عليه وآله) في السنة
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
1ـ (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من ولده والناس أجمعين).
2ـ (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ الناس إليه من والده وولده).
3ـ (ثلاث من كنّ فيه ذاق طعم الإيمان: من كان لا شيء أحبّ إليه من الله ورسوله، ومن كان لئن يحرق بالنار أحبّ إليه من أن يرتدّ عن دينه، ومن كان يحبّ لله ويبغض لله).
4ـ (والله لا يكون أحدكم مؤمناً حتى أكون أحبّ إليه من ولده ووالده).
5ـ (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه).
6ـ (من أحبّ الله ورسوله صادقاً غير كاذب، ولقي المؤمنين فأحبّهم، وكان أمر الجاهلية عنده كمنزلة نار ألقي فيها، فقد طعَم طعْم الإيمان، أو قال: فقد بلغ ذروة الإيمان).
إنّ الذي يرى سعادته في ما جاء به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من شريعة ودين، هو الذي يذوق طعم الإيمان، وتذوّق طعم الإيمان لا يتحقّق إلا عندما يستنّ الإنسان بسنّة رسول الله، ويعمل بشريعته فيحصل على سعادته.
7ـ عن أبي رزين قال: قلت يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: (أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، ويكون الله ورسوله أحبّ إليك ممّا سواهما، وتكون أن تحرق بالنار أحبّ إليك من أن تشرك بالله شيئاً، وتحبّ غير ذي نسب لا تحبّه إلا لله، فإذا فعلت ذلك قد دخل حبّ الإيمان في قلبك كما دخل قلب الظمآن حبّ الماء في اليوم القائظ).
8ـ (ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما).
9ـ عن أنس أن رجلاً سأل النبي (صلّى الله عليه وآله) عن الساعة فقال: متى الساعة؟ قال: (وما أعددت لها؟) قال: لا شيء، إلا أنّي أحبّ الله ورسوله، فقال: (أنت مع من أحببت). قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي (صلّى الله عليه وآله): (أنت مع من أحببت).
10ـ أبو ذر قال: يا رسول الله الرجل يحبّ القوم ولا يستطيع أن يعمل بعملهم؟ قال: (أنت يا أبا ذر مع من أحببت). قال: فإنّي أحبّ الله ورسوله، قال: (فإنّك مع من أحببت)، قال: فأعادها أبو ذر، فأعادها رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
11ـ (من أحيا سنّتي فقد أحبّني ومن أحبّني كان معي في الجنّة).
12ـ (والذي نفس محمد بيده ليأتين على أحدكم يوم ولا يراني، ثمّ لئن يراني أحبّ إليه من أهله وماله معهم).
13ـ (إن أحدكم سيوشك أن يحبّ ينظر إليّ نظرة بماله من أهل وعيال).
14ـ (من أشدّ أمّتي لي حُبّاً أناس يكونون بعدي، يودّ أحدهم لو رآني بأهله وماله).
15ـ (أشدّ أمتي لي حبّاً قوم يكونون بعدي يودّ أحدهم أنّه فقد أهله وماله وأنّه رآني).
16ـ (إنّ أناساً من أمّتي يأتون بعدي يودّ أحدهم لو اشترى رؤيتي بأهله وماله).
17ـ (من دعا بهؤلاء الدعوات في دبر كلّ صلاة مكتوبة حلّت له الشفاعة منّي يوم القيامة: اللهم أعط محمد الوسيلة، واجعل في المصطفين محبّته، وفي العالمين درجته، وفي المقرّبين ذكر داره).
18ـ (من قال في دبر كلّ صلاة مكتوبة: اللهمّ أعط محمد الدرجة والوسيلة، اللهم اجعل في المصطفين محبّته، وفي العالمين درجته، وفي المقرّبين ذكره) من قال تلك في دبر كلّ صلاة فقد استوجب عليّ الشفاعة، ووجبت له الشفاعة).
وقد روي عن أبي بكر قال: الصلاة على النبي (صلّى الله عليه وآله) أمحق للخطايا من الماء للنار، والسلام على النبي (صلّى الله عليه وآله) أفضل من أعتق الرقاب، وحبّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أفضل من عتق الأنفس أو قال: من ضرب السيف في سبيل الله عزّ وجلّ (4).
اختلاف الأمة في درجات حبّهم للنبي (صلّى الله عليه وآله)
وليست الأمّة المؤمنة في ذلك شرعاً سواء، بل هم فيه متفاوتون على اختلاف درجات عرفانهم به كاختلافهم في حبّ الله تعالى.
قال الإمام القرطبي: (كلّ من آمن بالنبي (صلّى الله عليه وآله) إيماناً صحيحاً لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبّة الراجحة غير أنّهم متفاوتون، فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظّ الأوفى، ومنهم من أخذ منها بالحظّ الأدنى، كم كان مستغرقاً في الشهوات، محجوباً في الفضلات في أكثر الأوقات، لكن الكثير منهم إذا ذكر النبي (صلّى الله عليه وآله) اشتاق إلى رؤيته بحيث يؤثرها على أهله وولده وماله ووالده، ويبذل نفسه في الأمور الخطيرة، ويجد مخبر ذلك من نفسه وجداناً لا تردّد فيه (5).
مظاهر الحبّ في الحياة
إن لهذا الحبّ مظاهر، إذ ليس الحبّ شيئاً يستقر في صقع النفس من دون أن يكون له انعكاس خارجي على أعمال الإنسان وتصرّفاته، بل أنّ من خصائص الحبّ أن يظهر أثره على جسم الإنسان وملامحه، وعلى قوله وفعله، بصورة مشهودة وملموسة.
فحبّ الله ورسوله الكريم لا ينفك عن اتّباع دينه، والاستنان بسنّته، والإتيان بأوامره والانتهاء عن نواهيه، ولا يعقل أبداً أن يكون المرء محبّاً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) أشدّ الحبّ، ومع ذلك يخالفه فيما يبغضه ولا يرضيه، فمن ادّعى حباً في نفسه وخالفه في عمله، فقد جمع بين شيئين متخالفين متضادّين.
ولنعم ما قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في هذا الصدد موجهاً كلامه إلى مدّعي الحبّ الإلهي كاذباً:
تعصــــي الإله وأنت تظهر حبّه هذا لعمــــري فــي الفعال بديع
لو كــــان حبّـــك صادقاً لأطعته إن المحــبّ لمن يحبّ مطيع(6)
للحبّ مظاهر وراء الاتباع
نعم لا يقتصر أثر الحب على هذا، بل له آثار أخرى في حياة المحب، فهو يزور محبوبه ويكرمه ويعظّمه ويزيل حاجته، ويذبّ عنه ويدفع عنه كلّ كارثة ويهيئ له ما يريحه ويسرّه إذا كان حيّاً.
وإذا كان المحبوب ميّتاً أو مفقوداً حزن عليه أشد الحزن، وأجرى له الدموع كما فعل النبي يعقوب (عليه السلام) عندما افتقد ولده الحبيب يوسف (عليه السلام) فبكاه حتى ابيضّت عيناه من الحزن، وبقي كظيماً حتى إذا هبّ عليه نسيم من جانب ولده الحبيب المفقود، هشّ له وبشّ، وهفا إليه شوقاً وحبّاً.
بل يتعدّى أثر الحب عند فقد الحبيب وموته هذا الحدّ، فنجد الحبّ يحفظ آثار محبوبه، وكلّ ما يتّصل به، من لباسه وأشيائه، كقلمه ودفتره وعصاه ونظّارته. كما ويحترم أبناءه وأولاده، ويحترم جنازته ومثواه، ويحتفل كلّ عام بميلاده وذكرى موته، ويكرمه ويعظّمه حبّاً به ومودّة له.
إلى هنا ثبت، أنّ حب النبي وتكريمه أصل من أصول الإسلام لا يصحّ لأحد إنكاره، ومن المعلوم أن المطلوب ليس الحبّ الكامن في القلب من دون أن يرى أثره على الحياة الواقعية، وعلى هذا يجوز للمسلم، القيام بكلّ ما يعدّ مظهراً لحبّ النبي، شريطة أن يكون عملاً حلالاَ بالذات، ولا يكون منكراً في الشريعة، نظير:
1ـ تنظيم السنّة النبوية: وإعراب أحاديثها، وطبعها، ونشرها بالصور المختلفة، والأساليب الحديثة، وفعل مثل هذا بالنسبة إلى أقوال أهل البيت وأحاديثهم.
2ـ نشر المقالات والكلمات، وتأليف الكتب المختصرة والمطوّلة حول حياة النبي وعترته، وإنشاء القصائد بشتّى اللغات والألسن في حقّهم، كما كان يفعله المسلمون الأوائل.
فالأدب العربي بعد ظهور الإسلام يكشف عن أن إنشاء القصائد في مدح رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان ممّا يعبّر به أصحابها عن حبّهم لرسول الله (صلّى الله عليه وآله). فهذا هو كعب بن زهير ينشئ قصيدة مطوّلة في مدح رسول الله (صلّى الله عليه وآله) منطلقاً من إعجابه وحبّه له (عليه السلام)، فيقول في جملة ما يقول:
بانــت سعـاد فقلبي اليوم متبول متـــــيّم إثـــــرها لم يُفْد مكبول
نُبِّئــــتُ أنّ رسـول الله أوعدني والعـــفوُ عند رسول الله مأمول
ويقول:
مهــــلاً هــــــداك الــــذي أعطاك نا فلة القــــرآن فيها مواعظ وتفصيل
إنّ الرســـــول لنــــور يستضاء به مهـــند من سيوف الله مسـلول(7)
وقد ألقى هذه القصيدة في حضرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأصحابه، ولم ينكر عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
وهذا هو حسّان بن ثابت الأنصاري يرثي النبي (صلّى الله عليه وآله)، ويذكر فيه مدائحه، ويقول:
بطيبة رسم للرسول ومَعْهَد مُنير وقد تعفو الرسوم وتحمد
إلى أن قال:
يدلّ علـــــى الرحـمن من يقتدي به وينقذ من هـــــول الخــزايا ويرشد
إمام لهم يهديــــهم الحـــــقّ جاهداً معلم صدقٍ إن يطيعوه يَسْعَدوا(8)
وهذا هو عبد الله بن رواحة ينشئ أبياتاً في هذا السياق فيقول فيها:
خلوا بــــني الكـــفار عن سبيله خلّوا فكلّ الخــير فــــي رسوله
يا ربّ إنّــــــي مـــــؤمــن بقيله أعـــرف حقّ الله في قـبوله(9)
هذه نماذج ممّا أنشأه الشعراء المعاصرون لعهد الرسالة في النبي الأكرم ونكتفي بها لدلالتها على ما ذكرنا.
ولو قام باحث بجمع ما قيل من الأشعار والقصائد حول النبي الأكرم لاحتاج في تأليفه إلى عشرات المجلّدات. فإنّ مدح النبي كان الشغل الشاغل للمخلصين والمؤمنين منذ أن لبّى الرسول دعوة ربّه، ولا أظنّ أنّ أحداً عاش في هذه البسيطة، ونال من المدح بمقدار ما ناله الرسول (صلّى الله عليه وآله) من المدح بمختلف الأساليب والنظم.
وهناك شعراء مخلصون أفرغوا فضائل النبي ومناقبه في قصائد رائعة وخالدة، مستلهمين ما جاء في الذكر الحكيم والسنّة المطهّرة في هذا المجال، فشكر الله مساعيهم الحميدة وجهودهم المخلصة.
3ـ تقبيل كلّ ما يمتّ إلى النبي بصلة: كباب داره، وضريحه وأستار قبره، انطلاقاً من مبدأ الحبّ الذي عرفت أدلّته. وهذا أمر طبيعي وفطري، فبما أن الإنسان المؤمن لا يتمكّن بعد رحلة النبي (صلّى الله عليه وآله) من تقبيل الرسول (صلّى الله عليه وآله) (10) فيقبّل ما يتّصل به بنوع من الاتصال، وهو كما أسلفنا أمر طبيعي في حياة البشر حيث يلثمون ما يرتبط بحبيبهم ويقصدون بذلك نفسه. فهذا هو المجنون العامري كان يقبّل جدار بيت ليلى ويصرّح بأنّه لا يقبّل الجدار، بل يقصد تقبيل صاحب الجدار، يقول:
مرّ علــــى الـــــديار ديـار ليلى أقبّل ذا الجـــــدار وذا الجـــدارا
فما حبّ الديار شغــــفن قلـــبي ولكن حـــــبّ مـــن سكن الديارا
4ـ إقامة الاحتفالات في مواليدهم: وإلقاء الخطب والقصائد في مدحهم، وذكر جهودهم ودرجاتهم في الكتاب والسنّة، شريطة أن لا تقترن تلك الاحتفالات بالمنهيّات والمحرّمات.
ومن دعا إلى الاحتفال بمولد النبي في أي قرن من القرون، فقد انطلق من هذا المبدأ، أي حبّ النبي الذي أمر به القرآن والسنّة بهذا العمل.
هذا هو مؤلف تاريخ الخميس يقول في هذا الصدد: (لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده، ويعملون الولائم، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرّات، ويعتنون بقراءة مولده الشريف، ويظهر عليهم من كرامته كلّ فضل عظيم) (11).
وقال أبو شامة المقدسي في كتابه: (ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل في اليوم الموافق ليوم مولده (عليه السلام) من الصدقات والمعروف بإظهار الزينة والسرور، فإنّ في ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراء شعاراً لمحبّته) (12).
أنا لا أوافق الشيخ المقدسي في تسميته للاحتفال بالبدعة إلا أن يريد البدعة بالمعنى اللغوي، كما أنّ الاحتجاج على حسن الاحتفال بالأعمال الجانبيّة من صدقات ومعروف وإظهار الزينة..، فإنّ هذه الأمور الجانبيّة لا تسوغ الاحتفال، ولا تضفي عليه صبغة شرعية ما لم يكن هناك دليل في الكتاب والسنّة، وقد عرفت وجوده.
وقال القسطلاني: (ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده (عليه السلام)، ويعملون الولائم، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرّات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كلّ فضل عظيم.. فرحم الله امرئً اتّخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً، ليكون أشدّ علّة على من في قلبه مرض وأعيا داء) (13).
إذا عرفت ما ذكرناه فلا نظنّ أن يشكّ أحد في جواز الاحتفال بمولد النبي الأكرم، احتفالاً دينياً في رضا الله ورسوله، ولا تصحّ تسميته بدعة، إذ البدعة هي التي ليس لها أصل في الكتاب والسنّة، وليس المراد من الأصل، الدليل الخاص، بل يكفي الدليل العام في ذلك.
ويرشدك إلى أن هذه الاحتفالات تجسيد لتكريم النبي، وجدانك الحرّ، فإنّه يقضي بلا مرية على أنّها إعلاء لمقام النبي وإشادة بكرامته وعظمته، يتلقاها كلّ من شاهدها عن كثب، على أن المحتفلين يعزّرون نبيّهم ويكرمونه ويرفعون مقامه اقتداء بقوله سبحانه: (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) (14).
السنّة النبوية وكرامة يوم مولده
1ـ أخرج مسلم في صحيحه عن أبي قتادة أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: (ذاك يوم ولدت فيه، وفيه أنزل عليّ) (15).
يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي ـ عند الكلام في استحباب صيام الأيام التي تتجدّد فيها نعم الله على عباده ـ ما هذا لفظه: (إنّ من أعظم نعم الله على هذه الأمّة إظهار محمد (صلّى الله عليه وآله) وبعثه وإرساله إليهم، كما قال الله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فصيام تجدّدت فيه هذه النعمة من الله سبحانه على عباده المؤمنين حسن جميل، وهو من باب مقابلة النعم في أوقات تجدّدها بالشكر) (16).
2ـ روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس (عليه السلام) قال: قدم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألوا عن ذلك؟ فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، ونحن نصومه تعظيماً له، فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): (نحن أولى بموسى منكم) فأمر بصومه (17).
وقد استدلّ بان حجر العسقلاني بهذا الحديث على مشروعيّة الاحتفال بالمولد النبي على ما نقله الحافظ السيوطي، فقال: (فيستفاد فعل الشكر لله على ما منّ به في يوم معين من إسداء نعمة، أو دفع نقمة ويعاد ذلك، نظر ذلك اليوم من كل سنة. والشكر لله يحصل بأنواع العبادة، كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم) (18).
3ـ وللسيوطي أيضاً كلام آخر نأتي بنصّه، يقول: (وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر، وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس أن النبي (صلّى الله عليه وآله) عقّ عن نفسه بعد النبوة مع أنّه قد ورد أن جدّه عبد المطلب عقّ عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرّة ثانية، فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي (صلّى الله عليه وآله) إظهار للشكر على إيجاد الله إيّاه رحمة للعالمين وتشريع لأمّته كما كان يصلّي على نفسه، لذلك فيستحبّ لنا أيضاً إظهار الشكر بمولده بالاجتماع، وإطعام الطعام، ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرّات) (19).
4ـ أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتّخذنا ذلك اليوم عيداً؟ فقال: أي آية؟ قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً) (20).
فقال عمر: إنّي لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) قائم بعرفة يوم الجمعة (21).
وأخرج الترمذي عن ابن عباس نحوه وقال: فيه نزلت في يوم عيد من يوم جمعة ويوم عرفة، وقال الترمذي: وهو صحيح (22).
(وفي هذا الأثر موافقة عمر بن الخطاب على اتخاذ اليوم الذي حدثت فيه نعمة عظيمة عيداً لأنّ الزمان ظرف للحدث العظيم، فعند عود اليوم الذي وقعت فيه الحادثة كان موسماً لشكر تلك النعمة، وفرصة لإظهار الفرح والسرور) (23).
نرى أن المسيح عندما دعا ربّه أن ينزل مائدة عليه وعلى حواريه قال: (اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (24). فقد اتّخذ يوم نزول النعمة المادية التي تشبع البطون عيداً، والرسول الأكرم نعمة عظيمة منّ بها الله على المسلمين بميلاده، فلم لا نتّخذه يوم فرح وسرور؟
الاستدلال بالإجماع
ذكروا أن أول من أقام المولد هو الملك المظفر صاحب اربل، وقد توفي عام 630هـ، وربما يقال أوّل من أحدثه بالقاهرة الخلفاء الفاطميون، أوّلهم المعجز لدين الله، توجه من المغرب إلى مصر في شوال 361هـ، وقيل في ذلك غيره، وعلى أي تقدير فقد احتفل المسلمون حقباً وأعواماً من دون أن يعترض عليهم أحد، وعلى أي حال فقد تحقّق الإجماع على جوازه وتسويغه واستحبابه قبل أن يولد باذر هذه الشكوك، فلماذا لم يكن هذا الإجماع حجّة؟ مع أنّ اتّفاق الأمة بنفسه أحد الأدلة، وكانت السيرة على تبجيل مولد النبي إلى أن جاء ابن تيمية، والعزّ بن عبد السلام (25)، والشاطبي فناقشوا فيه ووصفوه بالبدعة، مع أن الإجماع انعقد قبل هؤلاء بقرنين أو قرون، أو ليس انعقاد الإجماع في عصر من العصور حجّة بنفسه؟
أوهام وتشكيكات
إن للقائلين بالمنع تشكيكات وشبه كلّها سراب، نذكرها بنصوصها:

أ. الاحتفال من العبادة
قال محمد حامد الفقي: (والمواليد والذكريات التي ملأت البلاد باسم الأولياء هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم) (26).
يلاحظ عليه أنّ العنصر المقوّم لصدق العبادة على العمل هو الاعتقاد بإلوهية المعظّم له أو ربوبيّته، أو كونه مالك لمصير المعظّم المحتفل، وأن بيده عاجله وآجله، ومنافعه ومضارّه ولا أقل بيده مفاتيح المغفرة والشفاعة.
وأمّا إذا خلا التعظيم عن هذه العناصر، واحتفل بذكرى رجل ضحّى بنفسه ونفيسه في طريق هداية المحتفلين، فلا يعدّ ذلك عبادة له، وإن أقيمت له عشرات الاحتفالات، وألقيت فيها القصائد والخطب.
ومن المعلوم أن المحتفلين المسلمين يعتقدون أن النبي الأكرم عبد من عباد الله الصالحين، وفي الوقت نفسه هو أفضل الخليقة، ونعمة من الله إليهم، فلأجل تكريمه يقيمون الاحتفال أداءً لشكر النعمة.

ب. لم يحتفل السلف بمولد النبي
قال ابن تيمية: إنّ هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له، وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف ـ رضي الله عنهم ـ أحقّ به منّا، فإنّهم كانوا أشدّ محبّة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) وتعظيماً له منّا، وهم على الخير أحرص (27).
يلاحظ عليه: بما تعرّفت عليه في الفصل الرابع من أن المقياس في السنّة والبدعة هو الكتاب والسنّة وإجماع المسلمين أو السيرة العملية المتّصلة بعصر النبي، وأمّا غير ذلك فليس له وزن ولا قيمة ما لم يعتمد على هذه الأصول الأربعة، ولم يكن السلف أنبياءً ولا رسلاً، وليس الخلف بأقلّ منهم، بل الجميع أمام الكتاب وأمام السنّة سواسية، فلو كان هناك دليل من الكتاب والسنّة على جواز الاحتفال، فترك السلف لا يكون مانعاً، على أن ترك السلف لم يكن مقارناً بتحريم الاحتفال أو كراهيّته فغاية ما هناك أنّهم لم يفعلوا، وقد أمر الله بما في هذه الآية: (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (28) ولم يقل في حق النبي: (وما تركه فانتهوا عنه) فكيف الحال في حقّ السلف؟!

ج. إنّها مضاهاة للنصارى في ميلاد المسيح
يقول ابن تيمية: وكذلك ما يحدثه بعض الناس إمّا مضاهاة للنصارى في ميلاد المسيح (عليه السلام)، وإمّا محبّة للنبي وتعظيماً له والله لقد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع (29).
يلاحظ عليه: أنّ ابن تيمية ليس على يقين بأنّ المسلمين يقيمون الاحتفال مضاهاةً للنصارى، أضف إلى ذلك أن الأساس الذي يجب أن يبنى عليه عمل المسلم هو انطباق العمل على الكتاب والسنّة، فلا تكون المضاهاة مانعة عن اتّباع الكتاب والسنّة، وإن افترضنا أن أول من احتفل، احتفل مضاهاةً إلا أن المحتفلين في هذه القرون براء من هذه التهمة.
تخصيص المولد بيوم للاحتفال به بدعة
إن عموم الدليل يقتضي أن تكون جميع الأيام بالنسبة للاحتفال سواسية، فتخصيص يوم واحد في جميع البلاد بالاحتفال بدعة، وإن لم يكن أصل العمل بدعة (30).
هذا هو الدليل الهام للقائلين بالمنع، ولكن الجواب عنه واضح، وذلك لأن جميع الأيام بالنسبة إلى الاحتفال وإن كانت سواسية إلا أن تخصيص يوم واحد للاحتفال به، لأجل خصوصيات في ذلك اليوم، وليست في غيره إلا ما شذّ، وهو أن ذلك اليوم تشرّف بولادته، فهو من أفضل الأيام، كما أن البقعة التي ضمّت جسده الشريف هي من أفضل البقاع، ومن ثمّ خصّ النبي الأكرم يوم الاثنين بفضيلة الصوم، وبيّن أن سبب التخصيص هو أنّه (صلّى الله عليه وآله) ولد فيه، فصار كلّ ذلك سبباً لاختيار هذا اليوم دون سائر الأيام، نعم في وسعهم الاحتفال في غير هذا اليوم أيضاً، بل كلّ يوم أرادوا تكريم النبي والاحتفال به.
ثم إنّ الذي نلفت نظر القائل بالمنع إليه، هو أنّه لم يقترن ولن يقترن ادّعاء ورود الأمر الشخصي على هذا التخصيص، وإنّما الكلّ يتفق على جواز الاحتفال في جميع الأيام، غير أن تخصيص ذلك اليوم هو لأجل خصوصية كامنة فيه.
نعم من احتفل في مولد النبي وادّعى ورود الشرع به، أو حثّه على هذا التخصيص فهو مبتدع، ولا أظن على أديم الأرض رجلاً يدّعي ذلك.
وبعبارة موجزة، فإن كون الاحتفال بدعة رهن أمرين، وكلاهما منتفيان.
1ـ عدم الدليل العام على الاحتفال.
2ـ ادّعاء ورود الشرع بذلك اليوم الخاص وحثّه عليه.
فعندئذ فلا معنى لادّعاء البدعة.

هـ. الاحتفالات تشتمل على أمور محرّمة
إن هذه الاحتفالات مشتملة على أمور محرّمة في الغالب، كاختلاط النساء بالرجال، وقراءة المدائح مع الموسيقى والغناء (31).
يلاحظ عليه: أنّ هذا النوع من الاستدلال ينمّ عن قصور باع المستدل، وهذا يدلّ على أنّه قد أوعزه الدليل، فأخذ يتمسّك بالطحلب شأن الغريق المتمسّك به.
فإنّ البحث في نفس مشروعية العمل بحد ذاتها، وأمّا الأمور الجانبية العارضة عليه فلا تكون مانعاً من الحكم بالجواز، وما ذكره لا يختصّ بالاحتفال، بل كلّ عمل يجب أن يكون بعيداً عن المحرّمات، فعلى المحتفلين أن يلتزموا بذلك، ويجعلوا مجالسهم مهبطاً للنور.
وفي الختام نركز على أمر وهو أنّ الاستدلال على الجواز أن المنع بالأمور الجانبية خروج عن الاستدلال الفقهي، فإنّ الحكم بالجواز والمنع ذاتاً يتوقّف على كون الشيء بما هو هو جائزاً أو ممنوعاً، وأمّا الاستدلال على أحدهما بالأمور الطارئة فليس استدلالاً صحيحاً.
وهناك نكتة أخرى، وهي أن الاستدلال على الجواز بما جرت عليه سيرة العقلاء من إقامة الاحتفالات على عظمائهم قياس مع الفارق، لأنّ الاحتفالات الرائجة بين العقلاء من الأمور العادية، والأصل فيها هو الحليّة، وأمّا الاحتفال بمولد النبي فإنّما هو احتفال ديني، وعمل شرعي، فلا يقاس بتلك الاحتفالات، بل لابدّ من طلب دليل شرعي على جوازه، وبذلك تقدر على القضاء بين أدلّة الطرفين.
نعم لا يمكن أن ننكر أنّ ما يقيمه العقلاء من احتفال يؤثر في نفوسنا ويحفّزنا للإقبال على الاحتفال بمولد النبي، وفي هذا الصدد يقول العلاّمة الأميني.
(لعلّ تجديد الذكرى بالمواليد والوفيات، والجري على مراسم النهضات الدينية، أو الشعبية العامة، والحوادث العالمية الاجتماعية، وما يقع من الطوارق المهمّة في الطوائف والأحياء، بعدِّ سنيّها، واتّخاذ رأس كل سنة بتلكم المناسبات أعياداً وأفراحاً، أو مآتماً وأحزاناً، وإقامة الحفل السارّ، أو التأبين، من الشعائر المطرّدة، والعادات الجارية منذ القدم، ودعمتها الطبيعة البشرية، وأسّستها الفكرة الصالحة لدى الأمم الغابرة، عند كلّ أمة ونحلة، قبل الجاهلية وبعدها، وهلمّ جرّاً حتى اليوم.
هذه مراسم اليهود، والنصارى، والعرب، في أمسها ويومها، وفي الإسلام وقبله، سجّلها التاريخ في صفحاته.
وكأنّ هذه السنّة نزعة إنسانية، تنبعث من عوامل الحبّ والعاطفة، وتسقى من منابع الحياة، وتتفرع على أصول التبجيل والتجليل، والتقدير والإعجاب، لرجال الدين والدنيا، وأفذاذ الملأ، وعظماء الأمة إحياءً لذكراهم، وتخليداً لأسمائهم، وفيها فوائد تاريخية اجتماعية، ودروس أخلاقية ضافية راقية، لمستقبل الأجيال، وعظات وعبر، ودستور عملي ناجح للناشئة الجديدة، وتجارب واختبارات تولد حنكة الشعب، ولا تختص بجيل دون جيل، ولا بفئة دون فئة.
وإنّما الأيام تقتبس نوراً وازدهاراً، وتتوسّم بالكرامة والعظمة، وتكتسب سعداً ونحساً، وتتخذ صيغة ممّا وقع فيها من الحوادث الهامّة وقوارع الدهر ونوازله..) (32).
لمحة من تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف
رسالة مقتضبة من كتاب (حسن المقصد في عمل المولد) تأليف العلامة جلال الدين السيوطي 849-911هـ، تحقيق محمد سعيد الطريحي.
لا شك أن الفاطميين هم أول من ابتدع فكرة الاحتفال بذكرى المولد النبوي من تلقاء أنفسهم، كانوا يحتشدون لذلك احتشاداً شعبياً ذا روعة وجلال، وكان رجال الدولة يتغافلون عنهم ويغضون النظر عن تصرفاتهم، ولا يحاولون إزعاج أحد يقوم بذلك لأنهم لم يقبلوا أمر الإبطال إلا مكرهين، ولما آلت الخلافة الفاطمية إلى الآمر بأحكام الله في سنة (495هـ/1102م)، واغتيال الوزير الأفضل ابن أمير الجيوش، وإسناد منصب الوزارة إلى المأمون البطائحي، وفي يوم 13 ربيع الأول سنة (517هـ/1123م) صدر المرسوم الآمري بإطلاق الجواري الخاصة بالصدقات، والتي جرى عليها الرسم فيما مضى، فكانت: ستة آلاف درهم، وأربعين صينية فطرة، وأربعمائة رطل حلاوة، وألف رطل خبز، وذلك غير السكر واللوز والعسل والشيرج وأن يفرق من ذلك على المتولين وسدنة المشاهد، وغيرهم من الفقراء، وكان يتولى توزيع ذلك كله سناء الملك ابن ميسر القاضي (33).
وذكر تقي الدين المقريزي، عن ابن الطوير (34)، أن الرسم كان في الموالد الستة التي هي: مولد النبي (صلّى الله عليه وآله)، ومولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، ومولد السيدة فاطمة، ومولد ولديها الحسن والحسين (عليهما السلام)، ومولد الخليفة الحاضر ـ وكان من عادة الخليفة أثناء هذه الموالد والاحتفالات يجلس في المنظرة القريبة من الأرض لإطلاق الأموال وملاحظة توزيعها في مستحقيها، وكانت هذه المنظرة قبالة دار فخر الدين جهاركس، والفندق المستجد. قال: فإذا كان اليوم الثاني عشر من ربيع الأول تقدم (الخليفة) بأن يعمل في دار الفطرة: عشرون قنطاراً من السكر اليابس، حلواء يابسة من طرائفها، وتعبّى في ثلاثمائة صينية من النحاس، وتفرق تلك الصواني في أرباب الرسوم قاضي القضاة، ثم داعي الدعاة، ويدخل في ذلك القراءة بالحضرة، والمتصدرون بالجوامع بالقاهرة، وقومة المشاهد، فإذا صلّى الخليفة الظهر ركب قاضي القضاة والشهود بأجمعهم إلى الجامع الأزهر، ومعهم أرباب تفرقة الصواني فيجلسون مقدار قراءة الختمة الكريمة، ثم يستدعي قاضي القضاة ومن معه ـ إن كانت الدعوة إليه ـ وإلا حضر الداعي ومعه نقباء الرسائل، فيركبون ويسيرون إلى أن يصلوا إلى آخر المضيق من السيوفيين قبل الابتداء بالسلوك بين القصرين، فيقفون هناك وقد سُلكت الطريق على السالكين من الركن المخلّق، ومن سويقة أمير الجيوش عند الحوض هناك، وكنست فيما بين ذلك ورشت بالماء رشّاً خفيفاً، وفرش تحت المنظرة (التي يجلس فيها الخليفة) بالرمل الأصفر، ثم يستدعى صاحب الباب من دار الوزارة، ووالي القاهرة ماضٍ وعائد لحفظ (النظام) ذلك اليوم، ومنع الزحام فيكون بروز صاحب الباب من الركن المخلّق هو وقت استدعاء القاضي ومن معه من مكان وقوفهم، فيقربون من المنظرة، ويترجلون قبل الوصول إليها بخطوات فيجتمعون تحت المنظرة دون الساعة الزمانية بسمت وتشوف لانتظار الخليفة فتفتح إحدى الطاقات فيظهر منها وجهه وما عليه من المنديل، وعلى رأسه عدة من الأستاذين المحنكين وغيرهم من الخواص منهم، ويفتح بعض الأستاذين طاقة ويخرج منها رأسه، ويده اليمنى في كمه ويشير به قائلاً: أمير المؤمنين يرد عليكم السلام، فيسلم بقاضي القضاة أولاً بنعوته، وبصاحب الباب بعده كذلك، والجماعة الباقية جملة جملة من غير تعيين أحد، ثم يستفتح قرّاء الحضرة بالقراءة ويكونون قياماً في الصدر ووجوههم إلى الحاضرين، وظهورهم إلى حائط المنظرة، فيقوم خطيب الجامع الأنور المعروف بجامع الحاكم، فيخطب كما يخطب فوق المنبر إلى أن يصل إلى ذكر النبي (صلّى الله عليه وآله) فيقول: وإن هذا يوم مولده إلى ما منّ الله به على ملّة الإسلام من رسالته، ثم يختم كلامه بالدعاء للخليفة، ثم يؤخّر ويقدم خطيب الجامع الأزهر فيخطب كذلك، ثم خطيب الجامع الأقمر فيخطب كذلك، والقرّاء في خلال القراءة يقرأون، فإذا انتهت خطابة الخطباء أخرج الأستاذ رأسه ويده في كمه من طاقته ورد على الجماعة السلام، ثم تغلق الطاقتان فينفض الناس.
وعلى هذه الرسوم وهاتيك القواعد مضى الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف طوال عهد الدولة الفاطمية، إلى أن زالت بقيام الدولة الأيوبية، وقام صلاح الدين، وخلع الخليفة العاضد الفاطمي، وقبض على أعقاب الأسرة الفاطمية، وألغى رسوم الدولة الفاطمية، ومن بين هاتيك الرسوم أعيادها ومواسمها وأيام احتفالاتها، ويؤيدنا في هذا الباب ما أورده السيد حسن السندوبي، قال: (وقد بحثت فيما كتبه الكتاب، وتتبعت ما دونه أصحاب الأخبار، عن أحداث هذه الدولة الأيوبية، وما رواه رواتها وفُصاحها من شؤونها، فلم أعثر على خبر يشير إلى أنه قد كان لهذه الدولة شيء من العناية بأمر إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف، أو ينوّه بأن أحداً من ملوكها نهض به، أو فكر به، وهذا من غرائب تصرفات الدول، وتقلبات أوضاعها. إذ ممّا يمكن فهمه والتسليم به أن الدولة الأيوبية قد يكون من حقها الذي تجيزه السياسة القائمة على الانقلاب وتغيير الخطط الإدارية، أن تبطل الرسوم والتقاليد والعادات التي اقتضاها المذهب الشيعي إذا كان فيها غلوّ أو خروج على الشريعة، لأن الأيوبيين كانوا يذهبون إلى التسنّن، ولكن ما لا يمكن فهمه، ويبعد تصوره أن يدخل في مضمون ذلك إلغاء الاحتفال بذكرى المولد النبوي وذلك لأن إحياء هذه الذكرى والعناية بالاحتفال بها، وتعظيم شأنها وإنفاق الأموال في الأعمال الخيرية أثناء أيامها ولياليها، وتوزيع المبرات على أهل الفاقة من الشعب في خلالها ليس خاصاً بأهل مذهب أو أصحاب نحلة أو ذوي رأي، دون غيرهم من أهل المذاهب والآراء والنحل الأخرى، بل هو عام شامل لجميع المسلمين على السواء، يشترك في الاضطلاع بواجباته والنهوض بنوافله السنّي منهم والشيعي وغيرهما من أهل الإسلام).
وبالرغم ممّا جرى يظهر أن الدولة الأيوبية لم تشدد في إلغاء الاحتفال بالمولد النبوي، والدليل على ذلك أن الملك مظفر الدين صاحب أربل (35)، كان يحتفل بإحياء ذكرى المولد النبوي احتفالاً كان مضرب الأمثال والعظمة والجلال، وقد كان هذا الملك من عظماء الدولة الأيوبية، ومن أقوى أركانها، وكبار أعيانها، وكان من المشهود لهم بالكفاية التامة، والمعروفين بالنهوض بجلائل الأعمال الهامة، وكانت له المشاهد المذكورة مع صلاح الدين، والمواقف المشهودة في مكافحة الصليبيين، وبلغ من ثقة صلاح الدين به أن زوّجه من أخته (ربيعة خاتون) بنت أيوب.
ذكر سبط ابن الجوزي (36)، في كتابه مرآة الزمان، عمن شاهد سماط الملك المظفر في بعض هذه الاحتفالات المولدية، إنه عدّ في ذلك السماط خمسة آلاف رأس غنم مشوي وعشرة آلاف دجاجة ومائة فرس ومائة ألف زبدية وثلاثين ألف صحن حلو، قال: وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية فيخلع عليهم، ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر، ويرقص معهم بنفسه، وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار.
ونقل السخاوي في (التبر المسبوك) أنه كان للملك المظفر صاحب اربل (بالمولد النبوي) أتم عناية، واهتمام جاوز الغاية، بحيث أثنى عليه بذلك الإمام العلامة أبو شامة في كتابه (الباعث على إنكار البدع والحوادث) قال: إن هذا يحسن ويُندب إليه، ويُشكر فاعله ويُثني عليه.
وذكر ابن خلكان طرفاً من وصف احتفال هذا الملك، فإن الوصف يقصر عن الإحاطة به كما يقول. فقال: إن أهل البلاد كانوا سمعوا بحسن اعتقاده فيه (أي في المولد) فكان في كل سنة يصل إليه من البلاد القريبة من اربل مثل بغداد، والموصل، والجزيرة، وسنجار، ونصيبين، وبلاد العجم، وتلك النواحي، خلق كثير من الفقهاء، والصوفية، والوعاظ، والقراء، والشعراء، ولا يزالون يتواصلون من المحرم إلى أوائل شهر ربيع الأول، ويتقدم مظفر الدين بنصب قباب من الخشب، كل قبة أربع أو خمس طبقات، ويعمل مقدار عشرين قبة أو أكثر منها قبة له، والباقي للأمراء وأعيان دولته لكل واحد قبة.
فإذا كان أول صفر زيّنوا تلك القباب بأنواع الزينة الفاخرة المتجملة، ويعدّ في كل قبة جوق من الأغاني، وجوق من أرباب الخيال (37)، ومن أصحاب الملاهي، ولم يتركوا طبقة من تلك الطبقات حتى يرتبوا فيها جوقاً وتبطل معايش الناس في تلك المدّة وما يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران عليهم.
وكانت القباب منصوبة من باب القلعة إلى باب الخانقاه المجاور للميدان، وكان مظفر الدين ينزل كل يوم بعد صلاة العصر، ويقف على قبة قبة، إلى آخرها، ويسمع غناءهم ويتفرج على خيالاتهم، وما يفعلون في القباب، ثم يبيت في الخانقاه ويعمل السماع فيها (38)، ثم يركب عقيب صلاة الفجر يتصيد، ثم يرجع إلى القلعة قبل الظهر، وهكذا يعمل كل يوم إلى ليلة المولد.
وكان يعمل (المولد) سنة في ثامن الشهر، وسنة في ثاني عشرة، السبب الاختلاف الذي فيه، فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئاً كثيراً كثيراً زائداً عن الوصف، وزفها بجميع ما عنده من الطبول والأغاني والملاهي حتى يأتي بها إلى الميدان، ثم يشرعون في نحرها وينصبون القدور، فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات، وبعد أن يصلي المغرب في القلعة، ثم ينزل وبين يديه من الشموع المشتعلة شيء كثير، ومن جملتها شمعتان أو أربع من الشموع الموكبية التي تحمل كل واحدة منها على بغل، ومن ورائها رجل يسندها وهي مربوطة على أظهر البغل حتى ينتهي إلى الخانقاه.
وفي صبيحة يوم المولد تنزل الخلع من القلعة إلى الخانقاه على أيدي الصوفية وعلى أيد كل شخص منهم بقجة وهم متتابعون كل واحد وراء الآخر فينزل من ذلك شيء كثير ثم ينزل (الملك المظفر) إلى الخانقاه، ويجتمع الأعيان والرؤساء، وطائفة كبيرة من بياض الناس، وينصب كرسي للوعظ وقد نصب لمظفر الدين برج من الخشب له شبابيك إلى الموضع الذي فيه الناس، والكرسي، وشبابيك أخر للبرج إلى الميدان، وهو ميدان كبير في غاية الاتساع، ويجتمع فيه الجند ويعرضون ذلك النهار، والملك المظفر تارة ينظر إلى الجند، وتارة إلى الناس والوعاظ، ولا يزال كذلك حتى يفرغ الجند من عرضهم فعند ذلك يقدم السماط في الميدان للصعاليك، ويكون سماطاً عاماً فيه من الطعام والخبز شيء كثير لا يحد ولا يوصف، ويمد سماط ثان في الخانقاه للناس المجتمعين عند الكرسي.
وفي مدة العرض ووعظ الوعاظ يطلب (الملك المظفر) واحداً من الأعيان والرؤساء الوافدين لشهود هذا الموسم من الفقهاء والوعاظ والقراء والشعراء ويخلع على كل واحد منهم ثم يعود إلى مكانه فإذا تكامل ذلك كله حضروا السماط وحملوا منه لمن يقع التعيين على الحمل إلى داره ولا يزالون على ذلك إلى العصر أو بعده، ثم يبيت المظفر تلك الليلة هناك، ويعمل السماعات إلى بكرة.
هكذا دأبه في كل سنة، فإذا فرغوا من هذا الموسم تجهز كل إنسان للعود إلى بلدته فيدفع لكل شخص شيء من النفقة (39).
هذه صورة مختصرة للاحتفالات بمناسبة المولد النبوي أيام هذا الملك المظفر، وإذا كان هذا في بلاد المشرق، ففي بلاد المغرب أيضاً شاع إحياء المولد الكريم وبالأخص في تلمسان من ممالك أفريقية الإسلامية، إذ كان سلاطين بني زيّان يحتفلون بالمولد الشريف، ولا سيما في عهد السلطان أبو حمّو من آل زيان، فقد عني عناية خاصة تفوّق بها على أسلافه، وكان ذلك في القرن الثامن للهجرة، على ما ذكره المقرّي في نفح الطيب.
وفي المغرب الأقصى شاع تكريم هذا اليوم المبارك لا سيما في عهد السلطان أبي العباس أحمد المنصور الذي تولى الملك في أواخر القرن العاشر من الهجرة، وكذلك في تونس كما في كتاب (المؤنس في أخبار أفريقية وتونس) لمؤلفه الشيخ أبي عبد الله بن أبي القاسم الرعيني القيرواني المعروف بابن أبي دينار، قال: وأول من عُني بتعظيمه في البلاد المغربية السلطان أبو عنان المريني، ثم اقتدى به بنو أبي حفص من بعده، وكان ذلك في أول المائة الثامنة.
وشاع كذلك في البلدان الأفريقية الإسلامية وتلك التي تضمّ جماعات كبيرة من المسلمين، وفي دول آسيا المختلفة كالهند وباكستان وسيلان وإندونيسيا ودول جنوب شرق آسيا ذات الأقليات الإسلامية، وغيرها من البلاد، وما يزال الاحتفاء بالمولد جارياً شائعاً بين الكثير من المسلمين بوضع يلائم الظروف الحاضرة.
التوقيع:
أبى
هل تعرف كم احببتك
هل تعرف كم افتقدك
يا من ترك الدنيا بكل متعتها
اليوم تذهب الى الالهه الخالق
كيوم فيه ولدت باكيا
فهل تذهب بحسنات ام سيئات
حتى تلاقى الله ضاحكا مسرورا




رد مع اقتباس
قديم 02-26-2010, 09:33 PM   رقم المشاركة : [2]
اميره علي
عضو VIP
 
افتراضي

صلي الله علي محمد

شكرا ريهام علي الموضوع وربنا يجعله في ميزان حسناتك


اميره علي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-27-2010, 10:29 PM   رقم المشاركة : [3]
سامح محمد البنا
عضو
 
افتراضي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .


سامح محمد البنا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الاحتفال, النبى, بلومي


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع