العودة   الموقع الرسمي للاعلامي الدكتور عمرو الليثي > الأقسام العامة > المنتدى الإسلامى
إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 11-09-2012, 10:39 PM
safy nada safy nada غير متواجد حالياً
مشرف
 

افتراضي تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية

تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية
الغراء، وحكم التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية.. سُئل فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن فوزان الفوزان،
الحمد لله الذي أنزل شريعته رحمة بالعباد، ومحققة لمصالحهم في المعاش والمعاد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد أفضل رسول وأكرم هاد، وآله وأصحابه وأتباعه إلى يوم التناد. أما بعد: فإن من بشائر الخير التي تثلج صدر كل مسلم، وتملأ قلبه أملاً مفعماً بالغبطة والسرور، والسعادة والحبور، توجه عدد من الدول الإسلامية إلى تطبيق الشريعة الإسلامية بعد أن عاشت عقوداً من الزمن ترزح تحت راية التغريب والعلمانية، وتحتكم إلى القوانين الوضعية البشرية، التي أحلها المستعمر الأجنبي محل الشريعة الإسلامية، واستمر الحال على ذلك بعد خروجه في كثير من الدول الإسلامية، مما كان له أكبر الأثر في تجهيل الأمة وإبعادها عن دينها، ونشر الظلم والفساد في صفوفها، وجعلها في ذيل القافلة تابعة ذليلة لأعدائها، تتطفل على موائدهم، وتحكم قوانينهم وزبالات أفكارهم، ونتاج عقولهم القاصرة، المشوبة بشوائب الهوى والشهوة، والعادات والأعراف الجاهلية المنحرفة، مقدمة لها على شرع الله المحكم المبين، ومنهاجه المستقيم الذي أنزله رحمة للعالمين، منهج وضعه رب الناس لكل الناس، الذي خلق الإنسان، ويعلم ما يصلحه على مدار الزمان والمكان، منهج مبني على العدل والرحمة، والحكمة والمصلحة، منهج بريء من جهل الإنسان، وهوى الإنسان، وضعف الإنسان، وتقلبات الإنسان، لا محاباة فيه لفرد، ولا لطبقة، ولا لحزب، ولا لجنس، ولا لشعب، ولا لجيل دون جيل، لأن الله هو رب الجميع، والخلق كلهم عباده، وقد أنزل عليهم شريعته لتحقيق مصالحهم، وكفالة حقوقهم، وهدايتهم لما فيه سعادتهم في دنياهم وآخرتهم.

وهذا بخلاف القوانين الوضعية التي لا تكاد تخلو عن كونها تغليباً لمصلحة طبقة على طبقة، أو جنس على جنس. تستوي في ذلك كل النظم البشرية المعروفة على ظهر الأرض. ويكفي شاهداً على ذلك أن نستمع لطعن الاشتراكيين في النظام الرأسمالي، وطعن الرأسماليين في النظام الاشتراكي، وطعن الديمقراطيات في النظام الدكتاتوري، والدكتاتوريات في النظام الديمقراطي، لنعرف أن كل نظام من هؤلاء قد راعى فرداً أو طائفة على حساب بقية الأفراد والطوائف، وأن الذي يتولى الأمر في هذه الدول والشعوب، يصوغ القوانين لصالحه هو، لينال أكبر قدر من الحرية والاستمتاع على حساب الآخرين، أو على حساب القيم والأخلاق.

وما دام القانون ينبع من الأرض، فهو دائماً عرضة لتقلبات الحال بين الغالبين والمغلوبين في الأمة الواحدة، وفي المجتمع العالمي كله. ويصدق عليه دائماً ما يقوله الغربيون "الواقعيون"، ويعممونه خطأً على كل النظم بما فيها الإسلام، من أن القوانين تضعها الطبقة الأقوى لحماية مصالحها.

وحين أدركت الشعوب المسلمة مقدار بعدها عن دينها، وعظم جريمتها في تحكيم القوانين الوضعية والتحاكم إليها، وتجرعت غصصها وظلمها وجهلها، وعانت من ويلاتها ونكباتها، وأدركت إفلاسها في تحقيق الأمن وتثبيت قواعد العدل، وحماية المصالح الدينية والدنيوية، أخذت تنادي بأعلى صوتها، وتطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية بشمولها وكمالها في جميع شؤون الحياة.

ولا شك أن تطبيق الشريعة الإسلامية في الدول الإسلامية فريضة إلهية وواجب حتمي على الحكام والمحكومين في كل زمان ومكان. فلا يجوز الحكم بغير الشريعة ولا التحاكم إلى غيرها.

كيف لا؟ والله – تعالى – يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} (الأحزاب: 36)، ويقول: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (النساء: 65)، ويقول: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ...} (المائدة: من الآية 49)، ويقول سبحانه: {...وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة: من الآية 44)، والنصوص في هذا الباب كثيرة.

وإذا كان إبليس قد استحق لعنة الله، وحرم من رحمته، وبدل بالقرب بعداً، وبالجنة ناراً تلظى، لأنه رد على الله حكماً واحداً من أحكامه، ورفض امتثال أمره بالسجود لآدم، فكيف بمن ينبذون كتاب الله وراءهم ظهرياً، ويهملون شرائعه وأحكامه، ويستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟!!

حال المجتمعات الإسلامية اليوم

لكنا إذا نظرنا إلى حال المجتمعات الإسلامية اليوم التي لا تطبق فيها الشريعة الإلهية، نجد تناقضاً ظاهراً في كثير من مجالات الحياة بين ما توجبه الشريعة الإسلامية وبين ما يقره القانون الوضعي ويفعله الناس في الواقع، حتى لقد عاد الإسلام في هذه المجتمعات غريباً كما بدأ غريباً، وعزل الدين عن كثير من مجالات الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والجنائية، وغيرها، وأصبحت العلمانية التي تعني فصل الدين عن الحياة هي المهيمنة على كثير من قوانين تلك البلاد، وعلى الكثير من تصورات الناس، وأخلاقهم، وسلوكياتهم.

ولعل من مظاهر غربة الإسلام في هذه البلاد، أنه ما إن تقوم فيها دعوة جادة لإحياء نظام الإسلام، وتطبيق شريعته، إلا تعرضت لسيل من الشبهات والاعتراضات حول هذا النظام وإمكانية تطبيقه في هذا العصر، والتشكيك في عدالته وصلاحيته، وقدرته على الوفاء بمصالح الناس، وسدّ حاجاتهم.

وهي شُبَهٌ يثيرها ويروج لها أناس من المنتسبين إلى الإسلام من بني جلدتنا، والمتكلمين بلغتنا، ممن صرعتهم جحافل الغزو الفكري، وأثخنتهم سهام العلمانية الغربية، أو الاشتراكية الشيوعية، فصاروا معاول هدم لدينهم وتاريخهم وأمتهم، وهم في أغلب الأحيان من الطبقات المثقفة المتنفذة التي تعمل في كثير من مجالات التربية والتعليم، وتسيطر على كثير من وسائل الإعلام ومراكز التأثير وصناعة الرأي العام.

وما أكثر الذين ينعتون أنفسهم بالإسلام والإيمان، وهم يعلنون بملء أفواههم ويسطّرون بأقلامهم أن الشريعة الإسلامية غير صالحة للتطبيق في هذا الزمان، وأن العقوبات الشرعية فيها قسوة ووحشية لا تتناسب وروح العصر الحاضر !!!

هكذا يزعمون، وبمثل هذا يتفوهون، كبرت كلمة تخرج من أفواههم لو كانوا يعقلون.

التدرج في تطبيق الشريعة


ولهذا كان لابد لمعالجة هذه الأوضاع البائسة، ورتق هذه الفتوق الواسعة، من الأناة والروية، وتهيئة الأجواء، وتمهيد الأرض، وإصلاح المجتمع، وتصحيح عقيدته وأخلاقه، وأخذ الناس بالتدريج شيئاً فشيئاً، حتى يسهل عليهم الانقياد لشريعة الله، والتسليم لحكمه وأمره، وحتى لا تكون فتنة ومجال للطعن في دين الله، والتمرد عليه وعلى القائمين بتنفيذه.

وهو تدرج في التنفيذ، وليس تدرجاً في التشريع، لأن التشريع قد تم واكتمل في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال الله - تعالى -: {...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا...} (المائدة: من الآية 3)، فالشريعة قد اكتملت ولا شك، لكن التطبيق الشامل لها في عصرنا الحاضر يحتاج إلى تهيئة وإعداد لتحويل المجتمع إلى الالتزام الشرعي الصحيح، بعد عصر الاغتراب والتغريب.

ومما يدل على ضرورة التدرج في تطبيق الشريعة في مثل هذه المجتمعات، وأنه أمر تقتضيه السنن الكونية، والأصول والمقاصد الشرعية: أن شرائع الإسلام لم تنزل على الرعيل الأول جملة واحدة، وإنما نزلت شيئاً فشيئاً، وحكماً بعد حكم، وسلك الله بعباده مسلك التدريج مما سهل عليهم الالتزام بدينه، والاستجابة لأمره، والانقياد لشريعته وأحكامه، ولو نزل عليهم أول الأمر تحريم الخمر، والزنا، والربا، ونحوها، وتغليظ العقوبة على من يفعل ذلك، لأدى ذلك إلى النفور والإعراض، ولربما كان لبعضهم فتنة، وسبباً للكفر والردة.

قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (الفرقان: 32-33).

فالله تعالى قادر على أن ينزل شرعه جملة واحدة، ويكلف به عباده دفعة واحدة، لكنها حكمة العليم الحكيم الذي خلق الإنسان ويعلم حاله وما يُصلحه ويصلح له يقول الله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك: 14).

وروى البخاري في صحيحه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت عن القرآن الكريم: "إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصّل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنى أبداً..." الحديث .(1)

ولعل من الشواهد التي يسترشد بها في مثل هذا المقام، ما ذكره المؤرخون عن عمر بن عبد العزيز، وقد ولّي الخلافة بعد أناس انحرفوا عن منهج الراشدين، وارتكبوا مظالم، ضيّعوا بها حقوق الناس، وتعدوا حدود الله.

فقد دخل عليه ابنه التقي الصالح عبد الملك، وقال له في حماس متوقد: يا أبت ما لك تبطيء في إنفاذ الأمور؟! فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق! فقال الأب الحكيم الموفق: "لا تعجلْ يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخشى أن أحمل الناس على الحق جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة"(2)

فتأمل كيف نبّه ـ رحمه الله ـ على ضرورة الأخذ بسنة التدرج في تنفيذ الشرع وتطبيقه مستدلاً بالتدرج في التشريع، الذي سلكه الله تعالى في إيجاب بعض الواجبات، وتحريم بعض المحرمات، مثل تحريم الخمر.

وليس المقصود بالتدرج في التنفيذ أن نتدرج في إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات، كما كان الحال عليه قبل استقرار الشريعة وتمام النعمة، فنبيح الخمر مثلاً ونبين أن إثمها أكبر من نفعها، ثم نحرم شربها أوقات الصلوات المفروضة، ثم بعد حين نحرمها تحريماً قاطعاً، فهذا أمر لا يمكن أن يقول به من كان له أدنى معرفة بنصوص الشريعة، وفهم لمقاصدها.

وفي موقف مشابه، قال له: "يا بني، إن قومك - يعني بني أمية - قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى أردت مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم، لم آمن أن يفتقوا عليّ فتقاً، تكثر فيه الدماء. والله لزوال الدنيا أهون عليّ من أن يراق بسببي محجمة من دم، أو ما ترضى ألا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا، إلا وهو يميت فيه بدعة ويحيي فيه سنة، حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق، وهو خير الحاكمين؟!"(3)

وفي موطن آخر قال له: " إني أروض الناس رياضة الصعب، فإن أبقاني الله مضيت لرأيي، وإن عجلت علي منيّة فقد علم الله نيتي، إني أخاف إن بادهت الناس بالتي تقول أن يلجئوني إلى السيف، ولا خير في خير لا يجيء إلا بالسيف " (4)

ويدل على الحاجة إلى الأخذ بسنة التدرج في تطبيق الشريعة، أن كثيراً من الجرائم التي تعاقب عليها الشريعة الإسلامية، مباحة في القوانين الوضعية، وذلك كجريمة الربا، والردة، ومنع الزكاة الواجبة، واتخاذ الأخدان والخليلات، وخروج النساء كاسيات عاريات، واختلاطهن بالرجال الأجانب في المدارس والجامعات.. وغير ذلك.

بل إن بعض جرائم الحدود التي رتبت عليها الشريعة عقوبات مقدرة رادعة، هي مباحة في هذه القوانين، وذلك كالزنا وشرب الخمر. وما اعتبرته منها جريمة مخلة بالقانون، فإن العقوبة المرتبة عليه، لا تمت إلى العقوبة الشرعية بصلة.

لهذا، فليس من الممكن أن نأتي إلى هذه المجتمعات، التي أشربت هذه القوانين الوضعية، واستمرأتها ونشأت عليها، فنطبق عليها العقوبات الشرعية، فنجلد الزاني البكر ونغربه عاماً، ونرجم المحصن بالحجارة حتى الموت، وقد كان الزنا بالأمس القريب أمراً مباحاً، ونوعاً من الحرية الشخصية التي يحميها القانون. والمثيرات التي تهيج الغرائز، وتشعل الشهوات، لا تزال تدعو إلى الفاحشة وتحرض عليها بشتى الأسباب والسبل، بل وجد للفاحشة والدعارة في بعض البلاد الإسلامية شوارع وأحياء مشهورة، يثري من ورائها عشرات الألوف من تجار الأعراض، وأصحاب الفن الرخيص، والساعين لنشر الفاحشة بين المؤمنين.

وليس من الممكن أن يجلد شارب الخمر ثمانين جلدة، ومصانع الخمر لا تزال مرخصاً لها ومحمية من قبل الجهات الرسمية، والخمر لا يزال يباع في الأسواق والفنادق والأماكن العامة والخاصة.

وحد السرقة لا يمكن أن يطبق، وبعض الناس يبيت طاوياً لا يجد كسرة خبز تسد رمقه وتكسر جوعته، والاحتكار والربا والرشاوى، وسرقة المال العام من قبل بعض المتنفذين وكبار اللصوص، قائمة على قدم وساق. وعلى ذلك فقس بقية الجرائم والمنكرات.

فلا بد إذاً من تجفيف منابع الفتن، وإزالة أسباب الجرائم، وقطع ذرائع الفساد، وتحذير الناس من المنكرات والمعاصي، وبيان شؤمها وسوء عاقبتها في الدنيا والآخرة، ولا بد من السعي الجاد لتحقيق مصالح الناس، وكفاية حاجاتهم الأصلية، وإشباع الدوافع المادية والمعنوية قدر الإمكان، ثم من أصر بعد ذلك على المعصية، فلا عذر له، وهو دليل على انحرافه واستهتاره، وهنا يستحق أن تطبق في حقه العقوبة الشرعية الرادعة، من أجل زجره عن التكرار والمعاودة، وإعانته على الاستقامة وسلوك الجادة.

ثلاثة أمور مهمة

وأحب هنا أن أنبه على ثلاثة أمور مهمة:


الأول: أن الشريعة الإسلامية ليست منهجاً عقابياً فحسب، لكنها منهج حياة متكامل يشمل جميع مناحي الحياة العقدية والعملية والسلوكية، وهو منهج يعنى بالجوانب التربوية والوقائية، ويهتم بها أكثر من اهتمامه بالجوانب العقابية والزجرية.

وهذا مما يميز المنهج الإسلامي عن سائر المناهج الجاهلية التي يضعها البشر لأنفسهم بعيداً عن منهج الله، فإنها تركز على التدابير الزجرية أكثر من تركيزها على التدابير التربوية والوقائية، وتعنى بمعالجة الجرائم بعد أن تقع، أكثر من عنايتها بدرئها ومنع حدوثها.

كما أن العقوبات التي ترتبها على الجرائم الخطيرة المخلة بأمن المجتمع واستقراره أقل بكثير من العقوبات الشرعية الرادعة، التي تحسم الداء من أصله، وتمنع من تكراره ومعاودته.

فالشريعة الإسلامية إذاً تعتمد في إصلاح المجتمع ومكافحة الجريمة على الوسائل التربوية والوقائية أولاً، ثم يأتي بعدها دور الوسائل العقابية، التي تمثل خط الدفاع الثالث والأخير ضد الاعتداء والإجرام.

فلو نظرنا إلى جريمة السرقة على سبيل المثال، لوجدنا أن الإسلام وضع لها عقوبة رادعة، تتناسب مع خطورتها وشدة ضررها على الفرد والمجتمع، وهي قطع اليد، لكن هذه العقوبة ليست هي أول الطريق، بل هي نهايته. ذلك أنه عمد في البداية إلى تربية الإنسان مسلما يراقب الله ويخاف عقابه، وينفر من الجريمة ويستبشعها، كما أنه حثه على العمل والكسب، وأمره بطلب الرزق، وأن يغني نفسه بالمال الحلال، وجعل ذلك عبادة تزيده قرباً ومكانة عند الله.. ثم إنه وضع نظاما اقتصاديا يكفل للإنسان تحصيل الرزق الحلال، من كسب يده، أو من كفالة قرابته، أو من كفالة المجتمع له، أو من كفالة بيت مال المسلمين، فلا يوجد عنده - بعد ذلك - دافع أو مبرر معقول إلى ارتكاب جريمة السرقة، فإذا ارتكبها في هذه الحال، فإنه غير معذور، وعندئذ تطبق عليه هذه العقوبة الرادعة، بعد أن تتوفر شروطها، وتنتفي موانعها. وكذلك الحال في جريمة الزنا وشرب الخمر وغيرها من الجرائم.

وبهذا نعلم أنه يخطئ في حق الإسلام كثيراً، ويسيء إليه إساءة بالغة أولئك الذين يدعون إلى تطبيق الشريعة الإسلامية ويقصرون تطبيقها على مجرد العقوبات الشرعية، متجاهلين كل الأحكام والوسائل التربوية والوقائية التي شرعها الإسلام لإصلاح المجتمعات وتزكيتها، وحفظ مصالحها في معاشها ومعادها.

ويمعن الإنسان في الخطأ حين يتحدث عن الإسلام، فيجعل آخر وسائله هو أولها، بل كلها، حتى كأن الإسلام كله لخص في قطع يد السارق، وجلد الزاني والقاذف والسكير !!! وإن هذا وإن كان من الإسلام، فليس هو كل الإسلام، ولا أهم ما في الإسلام، ولا أول ما يطلب في الإسلام.

فالعقوبات وحدها لا تكفي لإصلاح المجتمعات وإسعادها، وإشباع حاجاتها ونوازعها، وإقامة بنيانها وترشيد مسيرتها، وقيادها إلى بر الأمان وسيف النجاة. وليست هي أول وسائل الإصلاح والبناء، بل هي نهايتها، وآخر الدواء الكي، وإنما العصا لمن عاند وعصى.

إن الإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء المجتمع الصالح، إنما يعتمد قبل كل شيء على التربية والتهذيب الذاتي، وغرس الإيمان في القلوب، وتزكية النفوس، ويعمل على خلق رأي عام قوي لتنمية المعروفات، وسحق المنكرات، ويقيم نظاماً للاجتماع والسياسة والاقتصاد يسد منافذ الجريمة والشر ويعين على الاستقامة والخير. وهو لا يحارب الدوافع الفطرية، ولكن ينظمها، ويضمن لها الجو النظيف الخالي من المثيرات والمهيجات على الجريمة والفاحشة، وذلك بتضييق فرص الغواية، وإبعاد عوامل الفتنة، مع إزالة العوائق دون الإشباع الطبيعي بوسائله النظيفة المشروعة.

وبهذا يتبين أهمية التطبيق الشامل للشريعة كلها، فالإسلام وحدة عضوية متكاملة ومتساندة، بجميع جوانبه العقدية والتشريعية والأخلاقية، والعقوبات الشرعية جزء من الجانب التشريعي، وهي لن تعمل عملها، وتؤتي ثمرتها أمنا وطمأنينة واستقرار حياة إلا في مجتمع يدين بالإسلام عقيدة وشريعة ومنهاج حياة.

الثاني: تطبيق شرع الله تعالى والالتزام به واجب على كل المسلمين، حكاماً ومحكومين، علماء وعامة، رجالاً ونساءً، فيجب أن تتضافر جهود الجميع للقيام بهذا الأمر الذي هو من أوجب الواجبات وأهم المهمات، وخيره ونفعه عائد عليهم جميعاً، كما أن ضرر تركه وإهماله يشملهم جميعاً.

وأعظم الناس مسؤولية في ذلك هم ولاة الأمر من العلماء والأمراء، ثم يليهم أهل الوجاهة من ذوي النفوذ والتأثير كالدعاة والمثقفين، ورجال التعليم والإعلام، والقضاء والإدارة، ثم من بعدهم بقية طبقات الشعب، كل في حدود اختصاصه، وبقدر طاقته وإمكاناته، وفي نطاق الأمانة الملقاة على عاتقه.

فتطبيق الشريعة، ليس عمل الحكام وحدهم، وإن كانت مسؤوليتهم أكبر من غيرهم، وهم أول من يطالب بها، باعتبار ما لهم من الصلاحيات، وما في أيديهم من السلطات التي تمكنهم من عمل الكثير الذي لا يقدر عليه سواهم.

ذلك أن الشريعة، ليست منهجاً عقابياً فحسب، بحيث يكون تنفيذه موكولاً للحاكم دون غيره، لكنها منهج شامل للحياة بكل شعبها، فالشريعة - بمعناها العام - تعني كل ما شرعه الله لعباده من الدين، فهي تنتظم العقائد والعبادات والمعاملات والسلوك والأخلاق التي جاء بها الإسلام. وتطبيق الشريعة، يعني إقامة كل هذه الجوانب.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن مسؤولية تطبيقها ليست قاصرةً على شخص دون شخص، ولا على جهاز دون جهاز، ولا على فريق دون فريق، بل هي مسؤولية الأمة كلها، أفراداً ومؤسسات، لا يستنثى من هذه المسؤولية أحد، وكل مسلم على ثغرة من ثُغر هذا الدين، فالرجل راعٍ في بيته، وهو مسؤول عن إقامة الإسلام على نفسه وأهله ومن تحت يده. والمؤسسات التعليمية والتربوية مسؤولة عن إقامة الإسلام فيمن تحت يدها من براعم غضة طرية، وشباب مفعم بالقوة والحيوية، ليكونوا بحقٍ رجال المستقبل وقادة الغد. والمؤسسات الإعلامية المختلفة مطالبة بالالتزام بالضوابط الشرعية، والعمل على تربية الناس، وإصلاح أفكارهم وتهذيب أخلاقهم وسلوكياتهم. ولا يختلف اثنان على أن وسائل الإعلام، من منظورة ومسموعة ومقروءة، من أكبر وأهم وسائل التأثير سلباً أو إيجابا، فهي سلاح ذو حدّين، وأدوات لها نتائجها، بحسب ما يبث فيها، وينشر من خلالها.

فإن سخّرت لنشر الخير، وتثبيت العقيدة الصحيحة، وتدعيم الأخلاق الفاضلة، والالتزام بالشريعة المطهرة، كانت وسيلة لا تضاهى في الإصلاح والبناء.

وإن سخرت لضد ذلك، كانت شرا مستطيرا، وبلاء خطيرا، يهدم الدين، ويحطّم الأخلاق، ويدمر القيم، ويثبط العزائم والهمم، ويضيّع الأعمار فيما يضر ولا ينفع، ويجر الأمة نحو التحلل والانهيار، وإهمال مصالح الدنيا والآخرة.

وكذلك المؤسسات الإدارية والاقتصادية، مسؤولة عن تطهير برامجها مما يخالف الإسلام من ناحية، وعن إقامة منسوبيها على الإسلام من ناحية أخرى. والمؤسسات الحاكمة مسؤولة أكثر من غيرها عن حمل كافة الناس على الالتزام بالشرع في أمورهم الدينية والدنيوية، ومسؤولة كذلك عن إزالة العقبات، وتذليل الصعوبات التي تحول بين الناس وبين إقامة الدين والحكم به والتحاكم إليه .

فلابد أن تكون تعاليم الإسلام هي الموجهة لكل نواحي الحياة، والقائدة لكل مؤسسات المجتمع. فلا يجوز أن تأخذ المحاكم ببعض القوانين التشريعية الإسلامية وتهمل البعض الآخر، كما لا يكفي أن تحكم المحاكم وحدها بالقوانين الإسلامية، على حين نجد أجهزة التربية والتعليم والإعلام وغيرها تسير على منهج غير إسلامي، وتوجهها أفكار غير إسلامية.

ولأجل هذا، كان الواجب على كل المؤسسات التربوية والتوجيهية، وعلى كل من تولى شيئا من أمور المسلمين، بدءاً بالولاية العظمى، إلى ولاية الرجل في بيته وأهله، أن تعمل متضافرة على تربية من تحت يديها تربية إسلامية أصيلة، وذلك بغرس الإيمان في قلوبهم، وتربيتهم على مراقبة الله تعالى والاستقامة على دينه، وأن تبذل وسعها في تزكية نفوسهم، وتهذيب أخلاقهم وسلوكهم، وحثهم على القيام بما يجب عليهم من حقوق الله - تعالى - وحقوق عباده.

كما يجب عليهم أن يجتهدوا في العمل على إيجاد البيئة النظيفة الخالية من المثيرات المصطنعة، والمهيجات على الجريمة والفاحشة، وذلك بمحاربة الفساد، وإغلاق أوكاره، و تضييق فرص الغواية، وإبعاد عوامل الفتنة، مع إزالة العوائق التي تحول دون إشباع الحاجات الفطرية بالوسائل النظيفة المشروعة.

ثم بعد ذلك تطبق العقوبات الشرعية على الشاذين والمنحرفين، الذين لا يمكن أن يخلو منهم مجتمع من المجتمعات مهما بلغ من الطهر والعفاف.

وهكذا فإن تطبيق العقوبات الشرعية يجب أن يسبقه ويتزامن معه تطبيق جوانب الشريعة الأخرى التي تشمل جميع شئون الحياة. فإن العقوبات وحدها، لا تبني المجتمعات، ولا تشبع حاجاتها، ولا تصلح فسادها، ولا تمنعها عن الظلم والإجرام، وإنما يصنع ذلك عقيدة سليمة تلائم الفطرة، وتحمل على مراقبة الله تعالى والحياء منه، ومحبته ورجائه وخشيته، وعبادة صحيحة تغذي الروح، وتجلب لها السكينة والطمأنينة، وأخلاق فاضلة تزكو بها النفس، وتحثها على الطهر والعفاف ومحبة الخير للناس، وتشريعات عادلة تكفل مصالح الناس، وتشبع حاجاتهم، وتحقق العدل بينهم، كما هو الحال في الشريعة الإسلامية بجميع جوانبها العقدية والتشريعية والأخلاقية.
الثالث: أن ضرورة رعاية التدريج في ميدان التنفيذ العملي، لا تعني المنع من الدعوة إلى التطبيق الفوري والشامل في الميدان الفكري والنظري، وأن تعلن الدولة أن دينها هو الإسلام، وأن دستورها هو الشريعة الإسلامية بشمولها وكمالها، وأنها هي المصدر الوحيد لجميع التشريعات.

ولا ينبغي أن يكون التدرج في التنفيذ شعاراً فكرياً ينادى به، لأن المطالبة يجب أن تكون دائماً بالأكمل والأمثل.

وإذا تقرر هذا، فإن التدرج في تطبيق الشريعة، ليس معناه تعطيل الحكم بالشريعة، أو تعليقه إلى أجل غير مسمى، بل معناه وضع خطة محكمة ذات مراحل، للانتقال بالمجتمع من العلمانية إلى الإسلام، على أن تعطى الأولوية للجوانب التربوية والأخلاقية والوقائية، التي تعمل متضامنة من أجل بناء الإنسان، وإشباع حاجاته الفطرية بما أحل الله، وتهيئ المناخ اللازم لتطبيق بقية شرائع الإسلام بما فيها العقوبات الشرعية، التي شرعت لتحقيق الأمن والاستقرار، وتثبيت قواعد العدل والإنصاف، ومكافحة الجريمة وقطع دابر الفساد.

فالتدرج المطلوب، هو التدرج المجدول المبرمج، الذي ينطلق من خطط وبرامج جادة، ويرتبط بمراحل زمنية محددة، فلا يمر على أصحابه يوم، إلا وقد تقدموا خطوة في سبيل التطبيق الشامل للشريعة. ولا يجوز أن يكون التدرج في التنفيذ شعاراً يُرفع لمجرد إرضاء الجماهير المؤمنة ودغدغة أحلامها والمماطلة بها، وذريعة للمراوغة والمناورة، والتنصل من تطبيق شريعة الله تعالى والحكم بها والتحاكم إليها.

فقد أصبح التدرج شعاراً يرفعه من يقاومون تطبيق شريعة الله، ويتهربون من تنفيذها، بدليل أنهم لم يفعلوا شيئاً في سبيل هذا التدرج المزعوم. وقد مضت سنوات وأعوام ولم يقدموا خطة واحدة لهذا التدرج الذي يدعونه، ولم نر أي خطوة عملية في سبيل تطبيق الشريعة الإسلامية من جانب هؤلاء المثبطين الذين يرفعون شعارات الاعتدال والتعقل والتدرج المزعوم، رغم أنهم يستطيعون ذلك لو كانوا مخلصين.

أسأل الله بأسمائه وصفاته أن يوفق المسلمين لمرضاته، ويسعدهم بطاعته، ويملأ قلوبهم بمحبته ورجائه وخشيته، ويعينهم على ذكره وشكره وحسن عبادته، ويهديهم سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، كما أسأله تعالى أن يوفق ولاة أمور المسلمين للحكم بشريعة الإسلام، والالتزام بالكتاب الكريم وسنة خير الأنام، وأن يجمع كلمتهم على الحق والهدى، ويأخذ بنواصيهم للبر والتقوى. إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه، ومن استن بسنته، واهتدى بهديه إلى يوم الدين. والحمد لله رب العالمين.

(1) أخرجه البخاري في (كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن، حديث رقم:4609).

(2) الموافقات 2/93-94، والإسلام والعلمانية وجهاً لوجه ص:164، وبينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغرّبين ص:213.

(3) حلية الأولياء 5/283، وسيرة ومناقب عمر بن عبدالعزيز لابن الجوزي ص:300، وتاريخ الخلفاء ص:240، وسيرة عبدالملك بن عمر بن عبدالعزيز لابن رجب ص:60.

(4) حلية الأولياء 5/281، وسيرة ومناقب عمر بن عبدالعزيز لابن الجوزي ص:302.

التوقيع: ليه الواحد ساعات يكون متضايق وتعبان

ليه ربنا اعطى البشر نعمة النسيان

علشان الكل يقوم من النوم مبسوط وفرحان

انسى الالم والحرمان وتمتع بنعم الرحمن

ان حسيت انك تعبان عليك بتلاوة القران***
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع